كثير من الناس يود ويتمنى التوبة، والرجوع إلى الله والبعد عن المعاصي والإقلاع التام عنها، لكن ترد عليه أفكار ووساوس كثيرة، تعوقه عن المضي فيما عزم عليه، هذه الأفكار والوساوس يعرضها ويرد عليها فضيلة الشيخ محمد المنجد فيقول:
التوبة تمحو ما قبلها
قد يقول قائل: أريد أن أتوب ولكن ماذا يضمن لي مغفرة الله إذا تبت، وأنا راغب في سلوك طريق الاستقامة ولكن يداخلني شعور بالتردد، ولو أني أعلم أن الله يغفر لي لتبت؟!.
فأقول له ما داخلك من هذه المشاعر داخل نفوس أناسٍ قبلك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو تأملت في هاتين الروايتين بيقين لزال ما في نفسك إن شاء الله.
روى الإمام مسلم (رحمه الله) قصة إسلام عمرو بن العاص (رضي الله عنه) وفيها:
" فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: "مالك يا عمرو؟ " قال: أردت أن أشترط. قال: " تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي. قال: " أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ ".
وروى الإمام مسلم عن ابن عباس (رضي الله عنهما): أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاماً" (الفرقان الآية 68)
ونزل: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"
هل يغفر الله لي؟
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن ذنوبي كثيرة جداً ولم أترك نوعاً من الفواحش إلا واقترفته، ولا ذنباً تتخيله أو لا تتخيله إلا وارتكبته لدرجة أني لا أدري هل يمكن أن يغفر الله لي ما فعلته في تلك السنوات الطويلة؟!.
وأقول لك أيها الأخ الكريم: هذه ليست مشكلة خاصة بل هي مشكلة كثير ممن يريدون التوبة وأذكر مثالاً عن شاب وجه سؤالاً مرة بأنه بدأ في عمل المعاصي من سن مبكرة وبلغ السابعة عشرة من عمره فقط وله سجل طويل من الفواحش كبيرها وصغيرها بأنواعها المختلفة مارسها مع أشخاص مختلفين صغاراً وكباراً حتى اعتدى على بنت صغيرة، وسرق عدة سرقات ثم يقول: تبت إلى الله عز وجل، أقوم وأتهجد بعض الليالي وأصوم الإثنين والخميس، وأقرأ القرآن الكريم بعد صلاة الفجر فهل لي من توبة؟
والمبدأ عندنا أهل الإسلام أن نرجع إلى الكتاب والسنة في طلب الأحكام والحلول والعلاجات. فلما عدنا إلى الكتاب وجدنا قول الله عز وجل: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له" (الزمر، الآيتان 53، 54)
فهذا هو الجواب الدقيق للمشكلة المذكورة وهو واضح لا يحتاج إلى بيان.
أما الإحساس بأن الذنوب أكثر من أن يغفرها الله فهو ناشئ عن عدم يقين العبد بسعة رحمة ربه أولاً.
ونقص في الإيمان بقدرة الله على مغفرة جميع الذنوب ثانياً.
وضعف عمل مهم من أعمال القلوب وهو الرجاء ثالثاً.
وعدم تقدير مفعول التوبة في محو الذنوب رابعاً.
ونجيب عن كل منها.
فأما الأول، فيكفي في تبيانه قول الله تعالى "ورحمتي وسعت كل شيء" (الأعراف الآية 56)
وأما الثاني: فيكفي فيه الحديث القدسي الصحيح: قال الله تعالى: "من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً" (رواه الطبراني في الكبير والحاكم انظر صحيح الجامع) وذلك إذا لقي العبد ربه في الآخرة.
وأما الثالث، فيعالجه هذا الحديث القدسي العظيم "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (رواه الترمذي انظر صحيح الجامع)
وأما الرابع، فيكفي فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (رواه ابن ماجه انظر صحيح الجامع)
وإلى كل من يستصعب أن يغفر الله له فواحشه المتكاثرة نسوق هذا الحديث:
توبة قاتل المائة
عن أبي سعيد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب. فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا ! فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نَصَف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم – أي حكماً – فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة " (متفق عليه) وفي رواية في الصحيح " فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها " وفي رواية في الصحيح " فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ".
نعم ومن يحول بينه وبين التوبة ! فهل ترى الآن يا من تريد التوبة أن ذنوبك أعظم من هذا الرجل الذي تاب لله عليه، فلم اليأس؟
بل إن الأمر أيها الأخ المسلم أعظم من ذلك، تأمل قول الله تعالى: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب ويخلد فيه مهاناً. إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً" (الفرقان، الآيتان 68 – 70)
ووقفة عند قوله: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" (الفرقان، الآية 70) تبين لك فضل الله العظيم قال العلماء التبديل هنا نوعان:
الأول: تبديل الصفات السيئة بصفات حسنة كإبدالهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة وهكذا.
والثاني: تبديل السيئات التي عملوها بحسنات يوم القيامة. وتأمل قوله "يبدل الله سيئاتهم حسنات" ولم يقل مكان كل سيئة حسنة فقد يكون أقل أو مساوياً أو أكثر في العدد أو الكيفية، وذلك بحسب صدق التائب وكمال توبته، فهل ترى فضلاً أعظم من هذا الفضل؟ وانظر إلى شرح هذا الكرم الإلهي في الحديث الجميل التالي:
عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم (وفي طرق أخرى: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدعم على عصا حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم) فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة " أي صغيرة ولا كبيرة " إلا أتاها، ( وفي رواية: إلا اقتطعها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم " أهلكتهم ")، فهل لذلك من توبة؟ قال: " فهل أسلمت؟ " قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال: " تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ". قال: وغدراتي وفجراتي. قال: " نعم ! " قال: الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى" (قال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار ورجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيطة وهو ثقة. وقال المنذر في الترغيب إسناده جيد قوي. وقال ابن حجر في الإصابة هو على شرط الصحيح)
وهنا قد يسأل تائب، فيقول: إني لما كنت ضالاً لا أصلي خارجاً عن ملة الإسلام قمت ببعض الأعمال الصالحة فهل تحسب لي بعد التوبة أو تكون ذهبت أدراج الرياح.
وإليك الجواب: عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسلمت على ما أسلفت من خير " (رواه البخاري)
فهذه الذنوب تغفر، وهذه السيئات تبدل حسنات، وهذه الحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة، فماذا بقي!.
كيف أفعل إذا أذنبت
وقد تقول إذا وقعت في ذنب فكيف أتوب منه مباشرة وهل هناك فعل أقوم به بعد الذنب فوراً؟. فالجواب: ما ينبغي أن يحصل بعد الإقلاع عملان:
الأول: عمل القلوب بالندم والعزم على عدم العودة، وهذا يكون نتيجة الخوف من الله.
والثاني: عمل الجوارح بفعل الحسنات المختلفة ومنها صلاة التوبة وهذا نصها:
عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له " ثم قرأ هذه آية "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون" (آل عمران الآية 135) (والحديث رواه أصحاب السنن انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/ 248)
وقد ورد في روايات أخرى صحيحة صفات أخرى لركعتين تكفران الذنوب هذا ملخصها:
1- ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ( لأن الخطايا تخرج من الأعضاء المغسولة مع الماء أو مع آخر قطر الماء ).
ومن إحسان الوضوء قول بسم الله قبله والأذكار بعده وهي: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( أو ) اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ( أو ) سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. ( وهذه أذكار ما بعد الوضوء لكل منها أجر عظيم ).
2- يقوم فيصلي ركعتين.
3- يقبل بقلبه ووجهه عليهما.
4- لا يسهو فيهما.
5- لا يحدث فيهما نفسه.
6- يحسن فيهن الذكر والخشوع.
7- ثم استغفر الله.
والنتيجة:
1- غفر له ما تقدم من ذنبه.
2- إلا وجبت له الجنة (صحيح الترغيب 1/94-95).
ثم الإكثار من الحسنات والطاعات. ألا ترى أن عمر (رضي الله عنه) لما أحس بخطئه في المناقشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، قال بعدها فعملت لذلك أعمالاً – أي – صالحات لتكفير الذنب.
وتأمل في المثل الوارد في هذا الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: " إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كان عليه درع (لباس من حديد يرتديه المقاتل) ضيقة، قد خنقته، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى حتى يخرج إلى الأرض " (رواه الطبراني في الكبير انظر صحيح الجامع 2192).
فالحسنات تحرر المذنب من سجن المعصية، وتخرجه إلى عالم الطاعة الفسيح، ويلخص لك يا أخي ما تقدم هذه القصة المعبرة.
عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت. فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل. فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه. فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، ثم قال: " ردوه علي ". فردوه عليه فقرأ عليه: "وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين"
فقال معاذ (وفي رواية عمر) يا رسول الله أله وحده، أم للناس كافة؟ فقال: " بل للناس كافة ". (رواه مسلم)
أهل السوء يطاردونني
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن أهل السوء من أصحابي يطاردونني في كل مكان وما إن علموا بشيء من التغيير عندي حتى شنوا علي حملة شعواء وأنا أشعر بالضعف فماذا أفعل؟!.
ونقول لك اصبر فهذه سنة الله في ابتلاء المخلصين من عباده ليعلم الصادقين من الكاذبين، وليميز الخبيث من الطيب.
وما دمت وضعت قدميك على بداية الطريق فاثبت، وهؤلاء شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض لكي يردوك على عقبيك فلا تطعهم، إنهم سيقولون لك في البداية هذا هوس لا يلبث أن يزول عنك، وهذه أزمة عارضة، والعجب أن بعضهم قال لصاحب له في بداية توبته عسى ما شر !!
والعجب أن إحداهن لما أغلق صاحبها الهاتف في وجهها لأنه تاب ولا يريد مزيداً من الآثام اتصلت به بعد فترة وقالت عسى أن يكون زال عنك الوسواس؟
والله يقول: "قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس" (الناس، الآيات 1 – 6)
فهل ربك أولى بالطاعة أم ندماء السوء؟!.
وعليك أن تعلم أنهم سيطاردونك في كل مكان وسيسعون لردك إلى طريق الغواية بكل وسيلة وبقد حدثني بعضهم بعد توبته أنه كانت له قرينة سوء تأمر سائق سيارتها أن يمشي وراءه وهو في طريقه إلى المسجد وتخاطبه من النافذة.
هنالك "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" (إبراهيم، الآية 27)
سيسعون إلى تذكيرك بالماضي، وتزيين المعاصي السابقة لك بكل طريقة، ذكريات … توسلات … صور … ورسائل.. فلا تطعهم واحذرهم أن يفتنوك وتذكر هنا قصة كعب بن مالك الصحابي الجليل، لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة جميعاً بمقطاعته لتخلفه عن غزوة تبوك حتى يأذن الله: أرسل إليه ملك غسان الكافر رسالة يقول له فيها: " أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك ". يريد الكافر استمالة المسلم حتى يخرج من المدينة ويضيع هناك في ديار الكفر.
ما هو موقف الصحابي الجليل قال كعب: " فقلت حين قرأتها وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور " الفرن " فسجرتها " أي أحرقتها ".
وهكذا اعمد أنت أيها المسلم من ذكر وأنثى إلى كل ما يرسل إليك من أهل السوء فاحرقه حتى يصير رماداً وتذكر وأنت تحرقه نار الآخرة. "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون"
إنهم يهدونني
أريد أن أتوب ولكن أصدقائي القدامى يهدونني بإعلان فضائحي بين الناس، ونشر أسراري على الملأ، إن عندهم صور ووثائق، ,أنا أخشى على سمعتي. إني خائف !!
ونقول: جاهد أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. فهذه ضغوط أعوان إبليس تجتمع عليك كلها، ثم لا تلبث أن تتفرق وتتهاوى أمام صبر المؤمن وثباته.
واعلم أنك إن سايرتهم ورضخت لهم فسيأخذون عليك مزيداً من الإثباتات، فأنت الخاسر أولاً وأخيراً. ولكن لا تطعهم واستعن بالله عليهم ؛ وقل حسبي الله ونعم الوكيل.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوماً قال: " اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم " (رواه أحمد وأبو داود انظر صحيح الجامع 4582).
صحيح أن الموقف صعب وأن تلك المسكينة التائبة التي اتصل بها قرين السوء يقول مهدداً: لقد سجلت مكالماتك ولدي صورتك ولو رفضت الخروج معي لأفضحنك عند أهلك !! صحيح أنها في موقف لا تحسد عليه !
وانظر إلى حرب أولياء الشيطان لمن تاب من المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات فإنهم يطرحون أسوأ إنتاجهم السابق في الأسواق للضغط والحرب النفسية، ولكن الله مع المتقين، ومع التائبين، وهو ولي المؤمنين، لا يخذلهم ولا يتخلى عنهم، وما لجأ عبد إليه فخاب أبداً، واعلم أن مع العسر يسراً، وأن بعد الضيق فرجاً. وإليك أيها الأخ التائب هذه القصة المؤثرة شاهداً واضحاً على ما نقول.
إنها قصة الصحابي الجليل مرثد بن أبي مرثد الغنوي الفدائي الذي كان يُهرب المستضعفين من المسلمين من مكة إلى المدينة سراً. " كان رجل يقال له: مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة، حتى يأتي بهم المدينة. قال: وكانت امرأة بغيٌّ بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحتمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائطٍ من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إلي عرفت، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. قالت: مرحباً وأهلاً، هلم فبت عندنا الليلة، قلت: يا عناق حرم الله الزنا. قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال: فتبعني ثمانية، وسلكت الخندمة (جبل معروف عند أحد مداخل مكة) فانتهيت إلى غار أو كهف، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي وعماهم الله عني قال: ثم رجعوا، ورجعت إلى صاحبي فحملته، وكان رجلاً ثقيلاً، حتى انتهيت إلى الإذخر ففككت عنه أكبله (قيوده) فجعلت أحمله ويُعييني (يرهقني) حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ مرتين، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد علي شيئاً، حتى نزلت: "الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك" (النور، الآية 3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مرثد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها " (صحيح سنن الترمذي3/80).
هل رأيت كيف يدافع الله عن الذين آمنوا وكيف يكون مع المحسنين؟.
وعلى أسوأ الحالات لو حصل ما تخشاه أو انكشفت بعض الأشياء واحتاج الأمر إلى بيان فوضح موقفك للآخرين وصارحهم، وقل نعم كنت مذنباً فتبت إلى الله فماذا تريدون؟
ولنتذكر جميعاً أن الفضيحة الحقيقية هي التي تكون بين يدي الله يوم القيامة، يوم الخزي الأكبر، ليست أمام مائة أو مائتين ولا ألف أو ألفين، ولكنها على رؤوس الأشهاد، أمام الخلق كلهم من الملائكة والجن والأنس، من آدم وحتى آخر رجل.
فهلم إلى دعاء إبراهيم:
"ولا تخزني يوم يبعثون* يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم" (الشعراء، الآيات 87 – 89)
وتحن في اللحظات الحرجة بالأدعية النبوية: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم لا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.
ذنوبي تنغص معيشتي
وقد تقول: إني ارتكبت من الذنوب الكثير وتبت إلى الله، ولكن ذنوبي تطاردني، وتذكري لما عملته ينغص علي حياتي، ويقض مضجعي، ويؤرق ليلي ويقلق راحتي، فما السبيل إلى إراحتي.
فأقول لك أيها الأخ المسلم، إن هذه المشاعر هي دلائل التوبة الصادقة، وهذا هو الندم بعينه، والندم توبة فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء، رجاء أن يغفر الله لك، ولا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمة الله. والله يقول: "ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون" (الحجر، الآية 56)
قال ابن مسعود رضي الله عنه: " أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله " (رواه عبد الرزاق وصححه الهيثمي وابن كثير)
والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، وقد يغلب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة، فإذا عصى غلَّب جانب الخوف ليتوب، وإذا تاب غلَّب جانب الرجاء يطلب عفو الله.
هل أعترف؟
وسأل سائل بصوت حزين يقول: أريد أن أتوب ولكن هل يجب علي أن أذهب وأعترف بما فعلت من ذنوب؟
وهل من شروط توبتي أن أقر أمام القاضي في المحكمة بكل ما اقترفت وأطلب إقامة الحد علي؟
وماذا تعني تلك القصة التي قرأتها قبل قليل عن توبة ماعز، والمرأة، والرجل الذي قبل امرأة في بستان.
فأقول لك أيها الأخ المسلم: اتصال العبد بربه دون وسائط من مزايا هذا التوحيد العظيم، الذي ارتضاه الله "إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" (البقرة، الآية 186) وإذا آمنا أن التوبة لله فإن الاعتراف هو لله أيضاً.
وفي دعاء سيد الاستغفار: "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي" أي أعترف لك يا الله.
ولسنا ولله الحمد مثل النصارى، قسيس وكرسي اعتراف، وصك غفران … إلى آخر أركان المهزلة.
بل إن الله يقول: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" (التوبة، الآية 104) عن عباده دون وسيط.
أما بالنسبة لإقامة الحدود فإن الحد إذا لم يصل إلى الإمام أو الحاكم أو القاضي فإنه لا يلزم الإنسان أن يأتي ويعترف، ومن ستر الله عليه فلا بأس أن يستر نفسه، وتكفيه توبته فيما بينه وبين الله. ومن أسمائه سبحانه الستير وهي يحب الستر على عباده، أما أولئك الصحابة مثل ماعز والمرأة اللذان زنيا والرجل الذي قبّل امرأة في بستان فإنهم رضي الله عنهم فعلوا أمراً لا يجب عليهم وذلك من شدة حرصهم على تطهير أنفسهم، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز أعرض عنه وعن المرأة في البداية، وكذلك قول عمر للرجل الذي قبّل امرأة في بستان (لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه )، وسكت صلى الله عليه وسلم إقراراً.
وعلى هذا فلا يلزم الذهاب للمحكمة لتسجيل الاعترافات رسمياً إذا أصبح العبد وقد ستره ربه، ولا يلزم كذلك الذهاب إلى إمام المسجد وطلب إقامة الحد، ولا الاستعانة بصديق في الجلد داخل بيت، كما يخطر في أذهان البعض.
ومن ذلك تُعلم بشاعة موقف بعض الجهال من بعض التائبين في مثل القصة الآتي ملخصها:
ذهب مذنب إلى إمام مسجد جاهل، واعترف لديه بما ارتكب من ذنوب وطلب منه الحل. فقال هذا الإمام لابد أولاً أن تذهب إلى المحكمة وتصدق اعترافاتك شرعاً. وتقام عليك الحدود، ثم يُنظر في أمرك. فلما رأى المسكين أنه لا يطيق تطبيق هذا الكلام، عدل عن التوبة ورجع إلى ما كان فيه.
وأنتهز هذه الفرصة لتعليق مهم فأقول: أيها المسلمون إن معرفة أحكام الدين أمانة، وطلبها من مصادرها الصحيحة أمانة، والله يقول: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (النحل، الآية 43) وقال: "الرحمن فاسأل به خبيراً" (الفرقان، الآية 59)
فليس كل واعظ يصلح أن يفتي، ولا كل إمام مسجد أو مؤذن يصلح أن يخبر بالأحكام الشرعية في قضايا الناس، ولا كل أديب أو قاص يصلح ناقلاً للفتاوى. والمسلم مسئول عمن يأخذ الفتوى، وهذه مسألة تعبدية. وقد خشي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الأئمة المضلين. قال أحد السلف: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فاحذروا عباد الله من هذه المزالق والتمسوا أهل العلم فيما أشكل عليكم " والله المستعان.