لا يهنأ الكريم بحياة الذل ولو كان يرفل في الدمقس والحرير وينعم بأطايب الطعام وموفور المال، لأن نفس الكريم يمرضها الذل مرضاً شديداً فتعاف كل ما حولها وتحب معزة النفس ولو على الشظف.
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش خير منه الحمام
كما يقول المتنبي
الحمام هو الموت: والذين هانت عليهم أنفسهم ورضوا بمعيشة الذل كالأموات لا يشعرون:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
ويقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
انما الميت ميت الاحياء
وهو الذليل المهان..
*
والعرب بالذات من أشد الأمم اعتزازاً بأنفسهم وصوناً لكرامتهم، وكراهية للذل فهم لا يصبرون عليه أبداً.. قال شاعرهم:
ولا يقيم على خسف يراد به
إلا الاذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشج فلا يرثى له أحد
ويقول عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم
وجهنم بالعز أطيب منزل
*
ونجد هنا شعر( الشاعرة بلقيس إكرام الجنابي ) وصف الكبرياء والانفة العربية إذ ان فقدان قيم المبادئ أو التنازل عنها لأي سبب كان لا يمكن بأي حال من الأحوال السكوت عنه نجد الشاعرة تتغنى عزا وتنشد فخرا بنسبها .تقول:
يـا ناشـدٍ عــن بلقيس بـنـت الأجــواد
تعجـز حروفـك لا توّفـي وصوفـي
أهـلـي هَــلْ الـطـولات راعـيـن الأمـجـاد
حامين حـد المرجلـه بالسيوفـي
لا أرزف عـلـى الـشـده بــروق ٍ ورعـــاد
شـِلـت الهمـوم المثقـلات بكتوفـي
أنــا شـعـاع ٍ لا أظـلــم الـلـيـل وقـــاد
يخجل شعاع البـدر ساعـة وقوفـي
ولعلّ هذا الوصف هو ما يشكّل الفرق بين من يقاوم ويناضل ويجاهد ويصابر بالساعد والقلم واللسان فيجمع المجد من أطرافه محافظا على قيم المبادئ وقيم الأصيلة والإنفة والعزة العربية معا
تعود الشاعرة حال لسانها ينشد تحببا ودلالا ًوصف فخرا وإنفة
تقول :
حسـنـي مــع الأيــام بالحـسـن يـــزداد
والطيـب يتمنـى ملامـس كفوفـي
بيـنـي وبـيـن الـحـرف ملـيـون مـيـعـاد
حتى ظروفـه تقتبـس مـن ظروفـي
والشـعـر يغـنيـنـي عــن الـشـرب والــزاد
أحـس بـه ْ سلـوان سمعـي وشوفـي
لــي فـيـه تغـريـبٍ ومـــوتٍ ومـيــلاد
وشفٍ تعلـى فـوق كـل الشفوفـي
يـنـسـاق لا سـقـتـه ولا قـــدت يـنـقـاد
يـوفـي معـي وأنـا لجـل عينـه أوفـي
أبعـاد عشـقـي للشـعـر مــا لــه أبـعـاد
عشق الكتابـة راسيـة فـي حروفـي
وبهذا تلتحم قيم المبادئ القبيلة والعزة والكرامة والإنفة العربية الأصيلة أيضا لتبشّر بولادة جيل حي فاعل خلاق
تقول,
لا أرزف عـلـى الـشـده بــروق ٍ ورعـــاد
شـِلـت الهمـوم المثقـلات بكتوفـي
أنــا شـعـاع ٍ لا أظـلــم الـلـيـل وقـــاد
يخجل شعاع البـدر ساعـة وقوفـي
*
فمن فقد قيم المبادئ والرجولة معا هو كمن فقد القلب والعقل والبصر في آن واحد وهذا هو حال الفئة الباغية الضالة في الوطن العربي والتي تحكم اليوم بالحديد والنار وتلجم الأفواه وتحبس الأنفاس حفاظا على كرسي الحكم المقام فوق جماجم وجثث الشهداء من أبناء هذه الأمة وتحتمي بالأجنبي لحماية عروشها العنكبوتية مما ساهم بشكل مباشر في تدهور حال الأمة من سيئ الى أسوء حتى تطاولت علينا جحافل المحتلين والطامعين والحاقدين فصدق فينا قول الرسول الكريم محمدا عليه الصلاة والسلام : (( توشك الأمم أن تداعى عليكم من كل أفق كما تداعى الأكلة الى قصعتها ؛ فقال قائل : أمن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ؛ ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن ؛ فقال قائل : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت .)) ؛ فحب الدنيا والرهبة من الموت هما السمتين المميزتين لأشباه الرجال ممن فقدوا قيم المبادئ والرجولة وإنبطحوا ركّعا سجودا لأسيادهم الغزاة المحتلين كما فعل عملاء المنطقة الخضراء في العراق لا همّ لهم سوى البقاء في سدّة الحكم ولو على حساب الشرف والكرامة والمروؤة والعزّة والأنفة والكبرياء ولا معنى عندهم للقيم والمبادئ والأخلاق فقيمهم العمالة ومبادئهم الخيانة وأخلاقهم الذلّ والمهانة أولائك هم الفئة الضالة التي وجب إستئصالها من تربة هذا الوطن الجريح من خلال التمسّك بقيم المبادئ والحفاظ على قيم الرجولة المتجسدة في الوقوف بوجه الباطل وقول كلمة الحق ومواجهة الظلم والقهر والاستعباد والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل بقاء هذه الأمة واستمرارها ولن يتمّ ذلك ما لم يتوفّر شرط الإيمان بحتمية النصر والثقة في المستقبل والجهاد المستمر ضدّ مظاهر الخنوع والخضوع والركود والصراع المتواصل مع قوى البغي والعدوان والسعي الدائم الى إعلاء كلمة الحق ورفع راية الحرية وبهذا تلتحم قيم المبادئ بقيم الرجولة لتبشّر بولادة جيل حي فاعل خلاق تكون حياته (( خطا واضحا مستقيما لا فرق بين باطنها وظاهرها ولا تناقض بين يومها وأمسها فلا يقال عن أحدهم نعم ... إنه سارق ولكنه يخدم وطنه ؛ ولا يقودون في الصباح مظاهرة ويأكلون في المساء على مائدة الظالمين ؛ الصلابة في الرأي صفة من أجلّ صفاتهم فلا يقبلون في العقيدة هوادة ولا يعرفون المسايرة ؛ فإذا رأوا الحق في جهة عادوا من أجله الجهات الأخرى وبدلا من أن يسعوا لإرضاء كل الناس أغضبوا كل من يعتقدون بخطئه وفساده ؛ إنهم قساة على أنفسهم قساة على غيرهم إذا إكتشفوا في فكرهم خطأ رجعوا عنه غير هيابين ولا خجلين لأن غايتهم الحقيقة لا أنفسهم ...)) .ذلك هو جيل القيم والمبادئ والشهامة والرجولة في أعمق وأصفى وأدقّ معانيها وفاقدي المبادئ والرجولة في هذا الزمن العربي الرديء ولكنهم خيّروا الموت بشرف وكرامة وعزّ على الحياة الذليلة تمثّلا لقول الشاعر عنترة بن شداد :
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فأسقني بالعز كأس الحنضل
فإن القيم الخالدة لا يمكن أن تموت أو تزول كما أن مبادئ الشرف والأمانة والكرامة والعزّة والوفاء والإخلاص باقية الى يوم الدين ببقاء رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه كرجال المقاومة الوطنية الباسلة والمناضلين الصامدين المرابطين في أرض الرافدين والمجاهدي الواقفين بالمرصاد لكلّ خائن عميل شعارهم في ذلك قول الشاعر:
وبـالأمـسِ كـنا نعد ,رجالاً
وكـدنـا نصدقُ تلك ,العلامة
فـنزهو بطول الشوارب ,منا
وصوتٌ غليظٌ وعرضٌ وقامة
حـتى أتيت فصُغت ,المعاني
فـبـدّل كـلُ دعـي ,كلامه
لأن الـرجـولـة قول وفعلٌ
وأن الـرجولة تعني ,الكرامة
وأن الـرجـولة توحيد ربٍ
بـكـل الـعبادةِ ثم ,استقامة
وأن الـرجـولـة حبٌ ,لدين
يـكون الجهاد بأعلى ,سنامه
وأن الـرجـولة زُهد وتركٌ
لـدُنـيـا وجاهٍ رفيع ,مقامه
وأن الـرجـولة عزمٌ وصبرٌ
على النازلاتِ وعسر الإقامة
وأن الـرجـولـة كـر ,وفرٌ
ونـصرٌ منَ اللهِ يُرجَى ,تمامه
*
وعنترة جاهلي فكلمة (جهنم) عنده ليست بمعناها الشرعي، ولكنها رمز للحياة المتعبة جداً ولكنها مع العز الذ من النعيم مع الذل.
والعز من الله عز وجل، هو الذي يعز العباد او يذلهم حسب ما إرتكبوا، فكلما حسن عمل المرء وطابت نيته أعزه الله وأبعده عن الذل الذي يقتل نفس الكريم، قال أبو فراس الحمداني:
ومن لم يوق الله فهو ممزق
ومن لم يعز الله فهو ذليل
ومن لم يرده الله في الأمر كله
فليس لمخلوق اليه سبيل
وأكثر من يلقون الاذلال والإهانة هم الفساق الفجرة والوقحون والسفهاء، فإن من لا يحترم نفسه لا يحترمه أحد، ومن لا يكرم نفسه فليبشر بالهوان:
ومن هاب الرجال تهيبوه
ومن حقر الرجال فلن يهابا
*
ومن شعرنا الشعبي البليغ في هذا المعنى قول حميدان الشويعر:
الأعمار ما يرجى لهن رجوع
غدت بخلان لنا وربوع
أمرقت انا الدنيا بيوم وليلة
واعد إسبوع من وراه إسبوع
سود الليالي ما دري عن بطونها
يمسن حوامل ويصبحن وضوع
والأيام لو تخلف بيوم عذرتها
لها بالليالي الماضيات صنوع
وأنا أحب يوم أجي فيه مذنب
ولا نيب مفراح ولا بجزوع
وأنا أحب جلوسي عند حي يفيدني
ولا ميت ما في لقاه نفوع
وأنا أحب قعودي عند قوم تعزني
لو كان فيهم من غريب طبوع
فيا مانع اشرف لي على راس مرقب
من قبل ما شمس النهار طلوع
فترى ياولدي من ثمن الخوف ماسطا
والأنجاس ما خلو سبيلك طوع
فلا يلزم القالات من لا يشيلها
ولا تحمل أرقاب الحريم دروع
*
ويقول راشد الخلاوي (وهو شاعر صادق اللهجة حكيم القول):
يجزي عمل راعي الحساين بمثلها
ويجزي علم راعي النكد بالنكايد
فلا تتقي في خصلة ما بها ذرا
ولا تنزل إلا عند راعي الوكايد
فلي من قديم العمر نفس عزيزة
أعض على عصيانها بالنواجد
قد أوزمتها ما كان خوف الى بقى
علي من أيام الردى تعاود
ويطاول ما وسدت راسي نكاده
من خوفتي يعتاد لين الوسايد
فمن عود العين الرقاد تعودت
ومن عقود العين المساري تعاود
ومن عود الصبيان أكل ببيته
عادوه في عسر الليالي الشدايد
ومن عود الصبيان ضرب بالقنا
نخوه يوم الكود: يابا العوايد!
ومن تابع المشراق والكن والذرا
يموت ما حاشت يديه الفوايد
الأيام ما باق بها كثر ما مضى
والأعمار ما اللي فات منها بعايد
وقولوا لبيت الفقر لا يا من الغنى
وبيت الغنى لايا من الفقر عايد
ولا يامن المضهود قوم لعزه
ولا يامن الجمع العزيز الضهايد
وواد جرى لابد يجري مع الحيا
أما جرى عامة جرى عام عايد
ومن لا يسقي كنة الصيف زرعه
فهو مفلس منها نهار الحصايد
*
ويرى الشاعر الكبير محمد بن أحمد السديري إن الحياة بلا عزم وصبر تورث صاحبها الذل، فهو يقول:
مصايب الدنيا كفى الله شرها
الراس منها يالفهيم يشيب
اليا غنت حمر الهموم وقادها
هاجوس فكري والضمير يجيب
تلقيتها بالعزم، والعزم غايتي
وفتى بلا عزم تراه يخيب
فتى بلا عزم حياته مذلة
والعزم لقلوب الرجال طبيب
*
ويقول الشاعر القديم:
إذا هم القى بين عينيه عزمه
ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
*
والعرب يكرهون التذلل تماماً إلا أمام المحبوبة، يقول الشريف المرتضى:
وإذا الرجال تعززوا ومشت الى
مهاجتهم رسل الغرام تذللوا..
ويقولون:
"للمعشوق أن يتدلل وعلى العاشق أن يتذلل"
قلت: وهو ليس ذل الهوان بل ذل الإنبهار فالإعجاب والحب والإصطياد!..
*
ويرى الشاعر عبدالله بن شيبان - في قصيدة جميلة - ان العز يأتي بإكرام النفس وابعادها عن الهوان، وبكريم الفعال والخصال..
يقول:
دور لنفسك دروب العز واركبها
تراك وان هنتها، من هانها هاني
من لا يحوش المراجل في مقاديمه
ما حاشها عاد لا جاشايب فاني
إن كان ما للفتى فعل يماري به
ما ينفعه قولة: أبواني وجدان!
لا تحسب الدار قبلتها مبانيها
إن اصلها يافتى طين وجدران
ما تستقيم البيوت إلا بزينتها
ولا لها قبلة إلا بسكان
ما كل من لبس له ثوب فهو زاكي
الناس ما بين عقال وسفهان!.
*
عبدالله الجعيثن
ومن لم يوق الله فهو ممزق
ومن لم يعز الله فهو ذليل
ومن لم يرده الله في الأمر كله
فليس لمخلوق اليه سبيل
*
ولعل من أروع ما قرات في قصيدة الشاعر الكبير محمد ابراهيم الحريري في قصيدته الهجائية ضد الإذلال والإنهزامية والخيانة
إنفة نَدُر ما نرااونقرأ عنه هذا الزمان تتجسد في قصيدته كل قيم ومباديء العربي الأصيل الأشم
أنشد شاعرنا:
فـُكـُّوا قميصي يساقطـْنِيْ لكم عتبا
هل يستوي قلـمٌ يجـري بـه الشـرفُ
وجاهلٌ عن سطـورِ الطهـر ينحـرفُ؟
أم كفَّتـا زمنـي إحداهُـمـا رجـحـتْ
للطين فانسـلَّ مـن عقديهمـا الخـزفُ؟
لـم يرتكـبْ قلـمـي بـابـا تَلَمَّـسُـهُ
غيري،ولا غُلِّقَتْ فـي وَجْهِـهِ الغـرف
بُـحَ العزيـزُ ولـم تعـثـر سنابـلـه
على السِّمَـان ِ فعـاد َ الحلـمُ يرتجـفُ
وعـاد ممتشقـا عرضـا ، أبيـع لــه
مـن أي قافيـة ستـرا لمـا خصـفـوا
ما بعتُ في مَعرِض ِ الأصوات حنجرتـي
يومـا، ولا نغمـي والسـربَ يختـلـفُ
لابـد للخضـر مـن بحـر يعـود بـه
كي يرفع الكنز عن أبصار مـن عرفـوا
أطلقْ سـراح غـدي فاليـومُ خاصمنـي
والأمسُ بعد انحيازي للضحـى يَجِـفُ*
قيدُ الأصابـع ِ تسبيحـي، ووجـه أبـي
أصبـو إلـيـه وإنْ ألـوانـه خطـفـوا
قيل اهبطوا أنفسا قـد سوَّغـت قصصـا
عنها الثعالـب رغـم المكـر تنصـرف
هـذا جنـاه يراعـي واصطليـتُ بــه
عشريـنَ ذاكـرة ً مـا مسَّهـا الكَلِـف
علـى شفـا عثـرةِ شـدوا حناجرهـم
لكنهـم عنـد أولـى سقـطـة وقـفـوا
خرسُ الأصابـع لـم تنضـج لحنجَـرةٍ
صوتا ، وإن شدَّ حبلَ النغمـة ِ الصَّلَـفُ
فـي ميعـةِ الأرق المحكـي يصبغُـهـم
من غلمة ِ الشعر ِ لـونٌ مجَّـهُ السلـفُ